أبرهة الحبشي وحملة الفيل

أبرهة الحبشي: التاريخ، الغزو، وسقوط الحملة على مكة

يُعد أبرهة الحبشي من أبرز الشخصيات التاريخية التي ظهرت في جزيرة العرب خلال القرن السادس الميلادي، وقد ترك بصمة واضحة في ذاكرة الشعوب العربية نتيجة الحادثة الشهيرة التي ارتبط اسمه بها، وهي محاولة غزو مكة لهدم الكعبة. هذه الحادثة التي تعرف في التراث الإسلامي بعام الفيل، أصبحت منعطفًا هامًا في الذاكرة الدينية والتاريخية للعرب قبل الإسلام. كان أبرهة واليًا على اليمن من قبل مملكة أكسوم الحبشية (إثيوبيا حاليًا)، وقد امتلك طموحات توسعية ودينية دفعته إلى محاولة فرض سيطرته وهيبته على وسط الجزيرة العربية. المقال التالي يقدّم دراسة تاريخية تحليلية موسعة عن أبرهة، جذوره، خلفيته الدينية والسياسية، حملته على مكة، آثارها، وتوثيقها في المصادر الإسلامية والتاريخية.

خلفية تاريخية وسياسية

في القرن السادس الميلادي، كانت مملكة أكسوم الحبشية واحدة من أقوى الممالك المسيحية في شرق أفريقيا، وقد مدّت نفوذها إلى اليمن بعد أن ضعفت مملكة حمير في جنوب الجزيرة العربية. كانت اليمن في ذلك الوقت منطقة ذات أهمية استراتيجية بالغة، نظرًا لموقعها التجاري المطل على البحر الأحمر، وقد سعت كل من الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية إلى بسط نفوذهما عليها عبر وكلاء محليين أو حلفاء دينيين.

خلال هذه الفترة، أرسل النجاشي الحبشي جيشًا بقيادة أرياط للسيطرة على اليمن وتثبيت الحكم المسيحي فيها بعد أن اضطهد ذو نواس الحميري (ملك حمير) النصارى، فيما يُعرف بمجزرة نجران. وبعد مقتل أرياط في نزاع داخلي، تولّى أبرهة الزعامة العسكرية وأعلن نفسه حاكمًا على اليمن باسم النجاشي، قبل أن يثبّت الأخير حكمه ويعترف به واليًا على اليمن.

شخصية أبرهة ونزوعه التوسعي

كان أبرهة الحبشي شخصية ذات كفاءة عسكرية وإدارية واضحة، وقد تميّز بطموح كبير، ليس فقط في توطيد حكمه في اليمن، بل كذلك في فرض السيادة الدينية من خلال الترويج للمسيحية. وقد بنى كنيسة كبيرة في صنعاء أطلق عليها اسم “القلّيس”، استخدمها كوسيلة رمزية وسياسية لمنافسة الكعبة في مكة، التي كانت قبلة العرب الدينية ومصدرًا تجاريًا واقتصاديًا رئيسيًا لقريش.

أرسل أبرهة وفودًا إلى قبائل العرب يدعوهم إلى الحج إلى القلّيس بدلًا من الكعبة، وهو ما اعتبرته القبائل إهانة لتقاليدها وكيانها الديني. تشير بعض الروايات إلى أن أحد العرب دخل القلّيس وأحدث فيها خرابًا تعبيرًا عن رفضه، وهو ما اتخذه أبرهة ذريعة لإطلاق حملة عسكرية على مكة بهدف هدم الكعبة.

الحملة على مكة: عام الفيل

تُعتبر حملة أبرهة على مكة واحدة من أشهر الغزوات في تاريخ العرب قبل الإسلام، وقد أطلق عليها المسلمون اسم “عام الفيل”، نظرًا لاستخدامه الفيلة في الحملة العسكرية، وهي حيوانات لم تكن معروفة لدى العرب آنذاك، ما أثار دهشة وخوف القبائل.

تحرّك أبرهة بجيش ضخم من اليمن، وكان يصاحبه عدد من الفيلة، أبرزها فيل ضخم يُقال إن اسمه “محمود”. وقد انضمت إليه بعض القبائل أو أُجبرت على مرافقة جيشه، بينما فضّلت قبائل أخرى اعتزال المعركة، خصوصًا وأن أهل مكة لم يكونوا في موقع يؤهّلهم للمقاومة العسكرية.

بحسب الروايات الإسلامية، فقد لجأ عبد المطلب بن هاشم، جد النبي محمد ﷺ، إلى الدعاء والاعتماد على حماية الله، دون محاولة الدخول في مواجهة عسكرية، وطلب من أهل مكة أن يخلوا المدينة، ليفسحوا المجال لقدَر الله أن يتحقق.

نهاية الحملة وحدث الطير الأبابيل

تذكر المصادر الإسلامية، خصوصًا في سورة الفيل، أن الله أرسل على جيش أبرهة “طيرًا أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم كعصف مأكول”. تفيد هذه الرواية بأن الجيش هُزم شرّ هزيمة بطريقة خارقة للطبيعة، وكان في ذلك تجلٍّ لحماية الله للكعبة من التدنيس والهدم.

رغم أن بعض المؤرخين الغربيين حاولوا تفسير الحدث بانتشار وباء قاتل مثل الجدري أو الطاعون داخل الجيش الحبشي نتيجة لتغيّرات مناخية أو سوء التغذية، إلا أن التراث الإسلامي يؤكد أن تدخلًا إلهيًا قد حدث، وكان لهذا الحدث أثر بالغ في نفوس العرب، حيث اعتبروا الكعبة مقدسة ومحفوظة من أي اعتداء.

توثيق الحدث وأثره في الوعي العربي

كان عام الفيل من الأحداث التاريخية التي بقيت محفورة في الذاكرة الجمعية للعرب، لدرجة أنهم استخدموه كنقطة مرجعية في حساب الأعوام قبل الإسلام. وقد وُلد النبي محمد ﷺ في نفس العام، ما أضفى على السنة رمزية إضافية في السياق الإسلامي.

تدلّنا نقوش “مأرب” و”زُبيد” وبعض المصادر السريانية على الحضور الحبشي في اليمن، كما ترد الحملة في كتابات بعض المؤرخين كإشارات مختصرة، في حين شكّك البعض في تفاصيل الرواية الإسلامية، رغم أن تراث العرب الجاهلي – من شعر ومرويات – أكّد حدوث الحملة وما ترتب عليها من آثار نفسية وسياسية.

سقوط أبرهة ومصير جيشه

لا يقدّم التاريخ تفاصيل دقيقة بشأن ما حدث لأبرهة بعد الحملة، إلا أن بعض المصادر الإسلامية ذكرت أنه أصيب بجروح أو مرض عضال أثناء الهزيمة، وعاد إلى اليمن منهارًا وتوفّي بعد فترة قصيرة، بينما فُكك جيشه وتبعثرت قوّاته.

كان فشل الحملة علامة فاصلة في تاريخ النفوذ الحبشي في الجزيرة العربية، حيث بدأ بعدها الضعف يدب في أوصال الحكم الحبشي في اليمن، حتى جاء سيف بن ذي يزن الذي استعان بالفرس (الساسانيين) لطرد الأحباش وإعادة السيطرة اليمنية المحلية على البلاد.

البعد الديني والسياسي لحادثة الفيل

يحمل حدث الفيل رمزية دينية كبرى في الوعي الإسلامي، فهو الحدث الذي مثّل تدخلًا إلهيًا مباشرًا لحماية الحرم المكي، والذي جاء قبل بعثة النبي ﷺ بخمسين عامًا تقريبًا. ومن هذا المنظور، فإن الحادثة كانت بمثابة تمهيد روحي ونفسي لظهور الرسالة الخاتمة في مكة، ورسّخت في الأذهان أن للكعبة مكانة لا تمس، وأنها تحت حماية ربانية خاصة.

سياسيًا، شكّل فشل أبرهة ضربة قاسية للنفوذ الحبشي، وكرّس تفوّق قريش الرمزي في المنطقة، ما أتاح لها لاحقًا أن تحتل دورًا محوريًا في المشهد الديني والتجاري في جزيرة العرب.

الخلاصة التاريخية

أبرهة الحبشي لم يكن مجرد قائد عسكري عابر في التاريخ، بل شكّل نقطة تماس بين حضارات وأديان ومصالح إقليمية متداخلة. سعى لتثبيت المسيحية في اليمن وتحويل مركز الحج العربي من مكة إلى صنعاء، لكنه اصطدم بعقيدة راسخة وقوة خفية تحرس الكعبة. تظل حادثة الفيل رمزًا لتلك اللحظة التي التقت فيها السماء بالأرض دفاعًا عن قداسة بيت الله، وسجلًا شاهدًا على تصدّع الطموحات الإمبريالية أمام الإيمان والقدر.

جدول: مقارنة بين الرواية الإسلامية والتفسيرات التاريخية الغربية لحادثة الفيل

المراجع

1. ابن هشام، السيرة النبوية، دار الفكر – بيروت.

2. باتريشيا كرون ومايكل كوك، Hagarism: The Making of the Islamic World – Cambridge University Press.